والذين يشملهم منع إنفاذ الوعيد حسب الذنوب أصناف ثلاثة: أصحاب الشرك الأكبر، وأصحاب الكبائر، وأصحاب الصغائر.
أما المشرك الكافر فلا ينتفع بشيء من الدعاء أبداً، بل الثابت النهي عن أن يدعى له، فلا ينتفع المشرك بشيء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48]، وقال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ))[المائدة:72]، وهذا وحده دليل كاف على أنه لا يستغفر لمشرك؛ لأنه لا ينتفع بذلك، والمقصود بالاستغفار هو الانتفاع، فهذا كفره وشركه يجعله لا ينتفع بذلك أبداً.
وقد وردت أيضاً أدلة خاصة في أن من مات على الكفر أو على الشرك لا ينفعه شيء، بل نهي عن الدعاء له، ومنها: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ))[التوبة:113]، يعني: قبل ذلك لا يؤاخذ الله تبارك وتعالى به، لكن بعد أن بين الله لهم ما يحذرون من هذا الشأن، وتبين لهم أن من مات على الشرك لا تنفعه شفاعة الشافعين ولا دعاء الداعين ولا استغفار المستغفرين؛ لكن بعد ذلك لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك.
وهذه الآية -كما روى الإمام البخاري رحمه الله- نزلت في شأن أبي طالب لما جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه ربه عز وجل بقوله: (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[التوبة:128]، وهو -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس شفقة ورحمة ورأفة بالناس، وليس بالمؤمنين فقط، بل إن رحمته وشفقته صلوات الله وسلامه عليه تعدت ذلك إلى أعدائه، وتعدت ذلك إلى البهائم وإلى من يستحق الرحمة في هذا الوجود، فالنبي صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه حرص على نجاة عمه أبي طالب ، ولمعرفته صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ومؤمنة كان يريد من عمه أن يسلم، فكان يقول: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله )، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في مبحث الإيمان الاستدلال بهذا على أن التصديق بالقلب مع عدم الإقرار باللسان لا ينفع شيئاً؛ لأنه لا شك عندنا في أن أبا طالب كان مصدقاً بقلبه، وليس في هذا ريب، فقد قال:
ولقد علمت بأن دين محمد                         من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة             لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فكان يخشى إن أعلن ذلك قول القائل: تركت ملة عبد المطلب واتبعت فلاناً، حدت عما كان عليه الآباء والأجداد! وهكذا المعايير الجاهلية.
فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم -حرصاً منه صلوات الله وسلامه عليه على نجاته من النار- أن يعطيه هذه الكلمة ليحاج له بها عند الله عز وجل ليتجاوز الله تعالى عنه؛ لأنه لو آمن حينئذ فلن يؤمن إلا عند الموت، إذ إنه ما كان مؤمناً في الدنيا، ولم يكن مع المؤمنين بما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان حامياً وناصراً للإسلام، وهو أعظم من حمى هذا الدين حتى قبضه الله تعالى إليه، ولكن لوجود دعاة السوء وقرناء السوء عند الموت لم يسلم، فضررهم عظيم في الدنيا وعند الموت وأينما وجدوا، وكان من سوء الخاتمة أن يأتي في تلك الساعة عدو الله أبو جهل و عبد الله بن أمية وأخذوا يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟! فكان ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يقر بها عينه، وينظر إلى الآخرين فيثيران فيه نعرة الجاهلية والاعتداد بما كان عليه الآباء والأجداد، فاحتار وتردد، وفي النهاية كان آخر ما نطق أن قال: (هو على ملة عبد المطلب) نسأل الله العفو والعافية وأن ينجينا ويعيذنا من سوء الخاتمة، فقبضه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أما -والله- لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا استغفار للمشركين ولا انتفاع لهم بذلك.